آخر المستجدات

أساس الانتماء السياسي هو “التعاقد” وليس “الاعتقاد”

عاصم منادي إدريسي
assem1.jpgيمثل الانتماء السياسي (التحزب) حقا مشروعا يملك كل مواطني البلد حرية القيام به أو الامتناع عنه. وهو فعل يضمن لهم المشاركة في تدبير الشأن العمومي والمساهمة في خدمة البلد، غير أن ممارسة هذا الفعل لا تتم إلا عن طريق مؤسسات عمومية تسمى “الأحزاب”، وتتأطر أنشطتها وقراراتها وأعمالها بقوانين رسمية.
تختلف الأحزاب عن بعضها بحسب اختلاف مرجعياتها وخلفياتها وإيديولوجياتها التي تعتمدها كأساس لبناء برامجها ومشاريعها السياسية، كما هو حال المرجعية الاشتراكية أو الليبرالية أو الدينية أو العرقية…
تتنافس هذه الأحزاب مع بعضها لنيل ثقة المواطن / المصوت وكسبهم إلى جانبها. ولتحقيق هذه الغاية تبني خططا ومشاريع تنموية واقتصادية واجتماعية وحقوقية تضعها بين يد المواطن الذي يفاضل بينها بحسب ما يخدم مصلحته ويستجيب لحاجياته ومصالحه ويجيب على تساؤلاته وانشغالاته.
وعندما يقتنع بمشروع سياسي معين، وبأهدافه وسياساته المستقبلية، يبادر إلى الانخراط الرسمي في هذه المؤسسة السياسية ليساهم من موقعه في تحقيق هذا المشروع وتنزيله فعليا على أرض الواقع. من هذا المنطلق، يتبين أن انتماء المواطن إلى حزب سياسي معين، ينبني على تعاقد خلقي ضمني مؤداه أن هذا الانتماء يظل مشروطا بمدى التزام الحزب بتلك المبادئ والقناعات التي يحترمها المواطن. وكما أن الحزب يملك صلاحية فصل أو طرد أي منخرط فيه ما لم يلتزم باحترام قواعده ومبادئه وسياساته، فإنه يحق للمواطن أيضا أن يجمد انتماءه للحزب أو يلغيه نهائيا (الاستقالة) إن تأكد انحرافه عن الالتزامات السابقة.
إن الانتماء السياسي لا يمثل تنازلا للفرد عن حريته في التفكير والتعبير والنقد والاحتجاج والاعتراض. بل هو اختيار للعمل ضمن مؤسسة يستجيب خطابها لآمال المواطن وتطلعاته، لذلك فإنه لا يلغي أبدا حرية الشخص وقدرته على التفكير والتمييز وإدراك الصواب، ولا يمكن للحزب بمبرر الانتماء، مصادرة حقوق منتسبيه في التعبير والرفض والمعارضة والاحتجاج، أو الزامهم بالدفاع عن سياسات وقرارات معينة قد لا تتطابق مع العدل ومقتضيات الفكر السليم.
أبت هذه الخواطر إلا أن تستبد بي وأنا أتأمل ردود أفعال أنصار الحزب الحاكم ومنتسبيه، تلكم الردود التي باتت مسلكيات آلية تحمل مقدارا كبيرا من العدوانية والوحشية ضد معارضي سياسات الحكومة التي يقودها حزبهم. فبتوجيه من قيادة الحزب، تولى الكثير من شبيبة الحزب وذراعه الطلابي مسؤولية الدفاع عن سياسات الجكومة وقراراتها ومهاجمة معارضيها وقذفهم بأبشع النعوت واتهامهم بالعمالة والتآمر ضد الحزب وأحيانا ضد الوطن.
ولا يختلف اثنان في أن أكثر فئة تعرضت لهذه الهجومات، ونالت الحظ الأوفر من هذه الاتهامات، كانت فئة “الأساتذة المتدربين”. وهي فئة لا تمارس أغلبيتها الساحقة السياسة ولا تنتمي لأي حزب سياسي. يتعلق الأمر بشباب تتشابه انتماءاتهم الطبقية (الطبقات الفقيرة)، كافحوا لسنوات طويلة وعانوا الفقر والفاقة والحرمان ليكملوا دراستهم. وعن جدارة واستحقاق تمكنوا من النجاح في مباراة توظيف يتولون بموجبها تربية أبناء الوطن مستقبلا لكن حلمهم في وظيفة تضمن الحد الأدنى من العيش الكريم سرعان ما تبخر أمام مرسومين جائرين أنزلهما رئيس الحكومة في غفلة من الجميع، للحفاظ على بضعة دريهمات من رصيد ضعيف كان يمثل أجرة لهذه الفئة في طور التدريب من جهة، ولإغراق التعليم العمومي في مستنقع الاختلال والتراجع.
رفضا لهذه السياسات التي تضرب في الصميم قيمة التعليم العمومي ومصداقيته، وتعمق من مشكلاته، خاض الأساتذة المتدربون معركة طويلة فاقت ستة أشهر، جربوا فيها أشكالا نضالية مختلفة شعارها السلمية والتحضر (وقفات.مسيرات.اعتصامات.مبيتات ليلية. إضرابات عن الطعام. تكميم الأفواه. مسيرات صامتة. مسيرات بالصور…) وفي مقابل ذلك جربت الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية كل أشكال القمع والتعنيف والتنكيل والتهديد والوعيد لإسكاتهم (مئات الجرحى وعشرات الكسور والندوب الغائرة والوجوه المشوهة، وآلاف الأعطاب النفسية التي تراكمت جراء المعاناة والقهر والإهانة اليومية…) وبينما كانت تباشر الحكومة إجراءاتها القمعية ضد الأساتذة المتدربين، كان أنصارها وأزلامها يواصلون الهجوم على الضحايا والمعنفين على المواقع الإخبارية والتواصلية، متهمينهم بتهديد أمن المجتمع وسلامته ومعاداة الإصلاح. بل وصلت الوقاحة ببعضهم إلى تزكية الممارسات القمعية الوحشية وتبريرها وإضفاء المشروعية عليها واتهام الضحايا بالتسبب فيما يحدث أكثر من ذلك السخرية من صور الجرحى والوجوه المخضبة بالدماء، وفي تصرف يجسد أبشع مظاهر الحقارة والدناءة والوضاعة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان.
والمثير للاستغراب والتعجب، هو أن أغلب المناصرين الذين يتولون القيام بهذه الأعمال القذرة والمنحطة ينحدرون من طبقات فقيرة ومسحوقة تعاني يوميا بسبب السياسات الحكومية المعادية لمصالح الفقراء، بل وتواجه صعوبة كبيرة في توفير المواد الغذائية الضرورية للعيش بسبب الارتفاع الصاروخي المستمر لأسعارها ولسعر المحروقات، ناهيك عن الارتفاع في قيمة فواتير استهلاك الماء والكهرباء والطرق السيارة وتذاكر القطارات وعموم وسائل النقل… وهو ما يدل على حجم الاستلاب الذي يعانونه داخل هذا التنظيم السياسي، والذي يبلغ بالمرء حد العمى التام والعجز عن إبصار الفرق بين الخير والشر، والظلم والعدل، والحق والباطل. والدليل على ذلك أنهم يدافعون باستماتة عن الجلاد الذي يستهدف القضاء على التعليم العمومي الذي يقصده أبناؤهم، ويضرب في العمق حق التوظيف الذي سيحرم منه أبناؤهم مستقبلا، ويحطم قدرتهم الشرائية التي يعانون بسببها حاليا. ولذلك نتساءل بحرقة عن طبيعة التعاليم التي يتلقاها هؤلاء البشر، والتي تجعلهم فاقدين للحد الأدنى من التفكير السليم. أي تعاليم هاته التي تجعل ولاء المرء للزعيم أكثر من ولائه لنفسه وللإنسانية؟ أية تربية هاته التي تجعل المرء يتنكر لمصالحه ومصالح أولاده ويختار الدفاع بشكل طوعي عن مصالح الزعيم الذي يتمتع بما يتيحه الحكم من نعم وامتيازات.
نحن أمام حزب سياسي مفلس خلقيا، لأن الالتزام الخلقي الذي تعاقد عليه مع الشعب كان هو “محاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة”، لكن الحزب تخلى عن هذا الالتزام واستبدله بشعار آخر لاسترضاء الأغنياء وذوي السلطة والنفوذ، وهو شعار “عفا الله عما سلف”. بينما كانت الصناديق والمؤسسات المالية العمومية تعلن إفلاسها التدريجي (المقاصة، المكتب الوطني للماء والكهرباء، التقاعد…) وبينما كان المواطنون ينتظرون فتح تحقيق لمحاسبة المسؤولين عن ما آلت إليه أوضاع هذه الصناديق، ولاسترداد المال العام، اختار رئيس الحكومة أن يحمل تبعات ذلك للشعب المقهور، وهو ما تم من خلال حذف صندوق المقاصة ورفع الدعم عن المحروقات، ثم الرفع من أثمنة استهلاك الماء والكهرباء، وأخيرا بنود “إصلاح التقاعد”. وكلها سياسات تمت على حساب القدرة الشرائية للمواطن المسحوق أصلا.
لكل هذه الأسباب، يحتاج أنصار هذا الحزب إلى مراجعة مواقفهم والتحقق من إنسانيتهم وحياتهم، إذ يبدو على الأرجح أن القوم أموات لا أحياء.

أترك ردا أو تعليقا مساهمة منك في إثراء النقاش

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d