الدولة تحاول التخلص من أكبر القطاعات الاجتماعية باستهداف نساء ورجال التعليم وقوى اليسار
*حسن إدوعزيز
يبدو أن تخلصنا من التخلف لايزال بعيد المنال. وأن مبادئ الاختلاف وحقوق الانسان، والاعتراف بالتعدد، وإشاعة الفكر النقدي، والتقدم والحداثة، وتحقيق التنمية المجتمعية التي يتوخى نظامنا التعليمي ترسيخها في سلوك المواطنين ستبقى حبرا على ورق، وموقوفة التنفيذ. كيف لا ومسؤولونا في الوظيفة العمومية وقطاع التربية والتكوين ما انفكوا يطلقون تصريحاتهم المسيئة لهيأة التدريس هنا وهناك، وكأنهم يريدون إيهام الجميع بأن هذه الفئة سبب جميع المشاكل التي يتخبط فيها المغاربة.
في الحقيقة لم نتفاجأ بتصريحات السيد الوزير وهو يهاجم “الأساتذة اليساريين” لأننا نعرف بأن داء العطب قديم وسيستمر مع نخبة خريجي المدارس الكبرى للتدبير والمهندسين ممن عقدت عليهم آمال كبيرة لتنزيل برامج ميثاق الإصلاح مع بداية العهد الجديد؛ لكن المؤسف هو أن تتوالى تلك التصريحات المبتذلة من طرف مسؤول محسوب على اليسار، وجاء لإصلاح الوظيفة العمومية محمولا على أكتاف المناضلين الحقيقيين من هؤلاء “الأساتذة اليساريين”. وهو ما يستدعي وقفة حقيقية للتأمل من طرف قوى اليسار، ونساء ورجال التعليم بشكل عام. فلم كل هذا القذف، وهذا الاستهداف لنساء ورجال التعليم، وضمنهم “الأساتذة اليساريون” تحديدا؟
إن هذا الاستهداف، في واقع الأمر، لم يكن سوى حلقة من مراحل رفع اليد عن التعليم كخدمة عمومية، واستمرارا للهجمة الشرسة التي دشنت بها الحكومة السابقة ولايتها عندما هاجم رئيسها الأساتذة والطبقة المتوسطة عموما من داخل قبة البرلمان محاولا إذكاء الصراع بينهم وبين كتلته الناخبة التي وعدها بأنه “غادي يكلع للأساتذة والمعلمين وغادي يعطي للشعب”، وبأنه “قضى على الإضرابات ديال المعلمين باش يقراو ولاد الشعب” وغيرها من الوعود السادجة المعسولة والفارغة. ولعل هذا الاستهداف مقصود وممنهج، لأن متزعميه يعلمون جيدا بأن نساء ورجال التعليم عموما، وقوى اليسار خاصة، واعية بدقة المرحلة، وما يحاك خلالها، وقادرة على الانبعاث من تحت الرماد في أي وقت وحين لتوجيه دفة التغيير داخل المجتمع، وتقديم مقترحات عملية من شأنها تغيير مسار نظام تربوي تتحكم فيه بعض الجهات كآلية من آليات التوجيه والضبط وإعادة الإنتاج.
إن اليسار، وقواه الحية داخل التنظيمات الحزبية والنقابية، يعي جيدا كيف تم إغراق المشهد السياسي المغربي في مستنقع التكنوقراط أو “القوة الثالثة”، كما يسميهم الراحل محمد عابد الجابري، والذين بدأ تفريخهم، مع فجر الاستقلال، من مدرسة القناطر والطرق الفرنسية لغايات مرسومة لمغرب ما بعد الخمسينات. ويعرف جيدا ما كان لهذا التوجه من أثر كارثي على الجانب الاجتماعي لعموم الطبقات الشعبية، وكيف تقاطعت أهدافه مع طموحات خليط من التيارات الحزبية والاثنية والقبلية لإفشال مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي دشنته حكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ اليساري عبد الرحمان اليوسفي، الذي كان بصدد التأسيس، بمعية الكتلة الديمقراطية، لعهد سياسي جديد قوامه المنهجية الديمقراطية.
كما أن “أساتذة اليسار” واعون بأن وصول هذه النخبة إلى مراكز القرار في العقود الأخيرة لم يكن وليد سياق راهن أبدا، بل مرتبط بسياق مغرب نهاية القرن التاسع عشر عندما اعتمد السلطان الحسن الأول على نخب الأعيان من الشرفاء والفقهاء والتجار لبناء مشروعه الإصلاحي الحداثي. وهي نفس النخب التي تشابكت، مع مرور الوقت، في شكل أنظمة عائلية تناسلت لتتوارث السلطة، والنفوذ، والثروة، ولتعيد إنتاج “نظام الوراثة” عبر تسيير كبريات المؤسسات الاقتصادية، وعبر حماية منظمات “الباترونا”. فلا غرو أن نجدها اليوم مرتبطة أشد الارتباط بالماضي وبثقافة الجمود، ومستعدة للتحالف مع أي كان من مناهضي التغيير حفاظا على مصالحها، رغم أن منبع تكوينها العلمي والتقني الأساس كان بالمدارس الحديثة لبلد الأنوار.
ولعل الظهور المتزايد لهذه النخب في الإدارة والأعمال وهرم الوظيفة العمومية، في العقود الأخيرة، لم يكن سوى نتيجة لليأس المتنامي وسط المغاربة، واللامبالاة التي تميز طبعهم، بعدما تم تهميش الأحزاب السياسية، وتم الهجوم على جميع أشكال المعارضة السياسية، والمقاربة النقابية، والرقابة الحقوقية. حيث تم إفراغ العمل السياسي من روحه بعد تحويل الأحزاب السياسية إلى مجرد أجساد منخورة ومتهالكة، واختزال أدوارها في أعمال إدارية بسيطة لا تتجاوز حدود الجماعات الترابية والشأن المحلي. ليكون التوجه واضحا، لا يحجبه “الغربال” طبعا، وهو إقصاء المواطن المغربي من أية مشاركة بناءة في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، ومن خلاله إقصاء أي مبادرة أو اقتراح حزبي او نقابي جاد.
إن الحقيقة المرة التي يحاول أصحاب هذه التصريحات المبتذلة حجبها بـ”غرابيلهم”، التي لا يتقنون غيرها، هي أنهم وجدوا الخرق قد اتسع على الراقع كما يقال، باتجاه الدولة نحو التخلص من التعليم كأكبر القطاعات الاجتماعية، وبأنهم أصبحوا غير قادرين على تدبيره كقطاع اجتماعي حيوي؛ بعدما فقدوا، مع مرور الوقت، الحس الوطني، والشعور بالطبقات الشعبية المسحوقة والصامتة سياسيا. وليختاروا الطريق السهل بقصف المتنورين من نساء ورجال التعليم، وتقديمهم أكباش فداء ترجع إليها كل أسباب الفشل، وتلفق لها تهم عرقلة جهود الإصلاح المزعوم.. متناسين، في الوقت ذاته، بأن قطاع التربية والتكوين شكل لفترة طويلة حقلا للاستقطاب الإيديولوجي والسياسي، وفضاء رحبا تلتقي فيه جميع الرؤى السياسية والاجتماعية والنقابية. ومتغافلين بأن أية محاولة لإصلاح هذا القطاع دون إشراك فعلي للفاعلين السياسيين والاجتماعيين، لا تعدو أن تكون مجرد خدعة بالية لن تنطلي على أحد.
فعوض سياسة الهروب إلى الأمام، والسير عكس الزمن، بإصدار التعليمات الفوقية لإنجاز الرتوشات الهامشية البعيدة عن عمق الاصلاح، وتفييء نساء ورجال التعليم حسب الانتماء السياسي والإيديولوجي، والحديث عن مصادرة عطلهم السنوية، والتشكيك في أشكال تقويمهم بتلك النرجسية الساذجة الزائدة عن اللزوم، كان حريا الكشف عن الصعوبات الإجرائية الحقيقية التي حالت دون تطبيق الإصلاح، وعن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الاختيارات الانتقائية لقرارات معينة على حساب أخرى، وخصوصا ما يتعلق بمسألة التمويل ومساهمات الشركاء الاقتصاديين، ومآل اعتمادات البرنامج الاستعجالي، وغيرها… خصوصا وأن الجميع بات يعي التردد الذي أصبح يلازم الوزارة الوصية في تنفيذ الإصلاح بنزعتها الدائمة إلى تغليب الأبعاد الكمية على الجوانب النوعية في ظل سياسة تعليمية يغلب فيها القول على الفعل، وتفتقر إلى الاستمرارية والاستدامة في الإنجازات. إذ كيف يعقل أن يتعاقب على الوزارة ما يقارب خمسين وزيرا وكاتب دولة من الاستقلال إلى الآن، اتسمت مقارباتهم لهذا القطاع الاجتماعي الصرف بالتردد وبعدم التجانس؟؟
هنا ربما يكمن الرهان الحقيقي الذي بدأت تستشعر النخبة التقنية، التي عقدت عليها آمال التنزيل الإجرائي للإصلاح، صعوبته. ويبدو من خلال تصريحاتها غير المحسوبة، بأنها تفتقد إلى المداخل الحقيقية لكسبه، وبأنها وصلت بالفعل إلى مرحلة شيخوختها. ولعل ما يلي مرحلة الشيخوخة هذه، بالمنطق الخلدوني طبعا، هو ميلاد حياة جديدة. وهذه الحياة، حسب الزمن السياسي لا التقني، لن تكون سوى بالثورة على المقاربات البائدة المفروضة كردة فعل طبيعية ومنطقية على ما أصبحت الغالبية العظمى تتعرض له من غربلة وظلم وإقصاء وتهميش.
*عضو المكتب الجهوي للنقابة الوطنية للتعليم- مراكش أسفي
أترك ردا أو تعليقا مساهمة منك في إثراء النقاش