جوانب تاريخية حول النظام التعليمي المغربي
من الفترة الرومانية إلى الفترة الحالية
حسن ادواعزيز*
إن المتتبع لتاريخ المنظومة التعليمية المغربية، يرى أن بداياتها الأولى ضاربة في القدم، انطلقت منذ نهاية القرن الأول الميلادي؛ مع بسط السيطرة الرومانية على منطقة الشمال الإفريقي… وعرفت تطورا مستمرا عبر مختلف العصور التاريخية اللاحقة، بدءا بالعصر الوسيط مع وصول الفتح الإسلامي، ومرورا بالعصر الحديث في ظل الدول التي تعاقبت على المغرب، ووصولا إلى التاريخ المعاصر خلال القرن العشرين، مع دخول المغرب تحت الحماية الفرنسية، ونهاية بمغرب ما بعد الاستقلال حيث محاولات الإصلاح المتكررة منذ اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم 1957 حتى ميلاد الميثاق الوطني للتربية والتكوين مطلع الألفية الثالثة. فماهي ملامح النظام التعليمي المغربي خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة؟
1- التعليم خلال الفترة الرومانية:
فهذه الإمبراطورية حملت معها إلى المنطقة طرق عيش مختلفة، وحرصت على تكريس لغتها وتوسيع مجال استعمال ثقافتها الرومانية- الهلنستية عبر عملية التعليم، وعبر نشر المدارس تماشيا مع سياستها الهادفة لرومنة مجموع المناطق المحتلة. فلقد انتشرت اللغة اللاتينية بمجموع ولاية أفريقيا، منذ الفترة الإمبراطورية، كما ظهرت بعض رموز الخطابة والنحو وبعض المثقفين أمثال أحد شباب مدينة سطيف (stif) الذي برز في مجال اللغتين اللاتينية والإغريقية، وبعض نبلاء “سلا” (sala) أصدقاء الحاكم الروماني للمدينة؛ والذين حرروا مرسوما شرفيا بلغة لاتينية رصينة. كما أن مجموع الإمبراطورية كان مغطى بشبكة من المؤسسات التعليمية التي أنتجت نحويين وبلاغيين ورجال دين بالعديد من المراكز الهامة؛ كالقديس “أوغسطينوس” الذي ازداد في مدينة “طاكاست” (Thagaste) بـ”نوميديا” البروقنصلية وتابع دراسته الابتدائية بها (مثله مثل زميله فرجليوس)، ثم انتقل إلى مدينة “مادورا” (Madaura) موطن المؤرخ “أبوليوس”، من أجل تعلم دروس النحو والبلاغة…قبل الوصول إلى “قرطاج” لإكمال دروسه تحت رعاية وسخاء حامي مدينة “طاكاست” “كرنليوس رومانيانوس”، ويعين في سن الواحدة والعشرين أستاذا عموميا للبلاغة في “قرطاج” ثم خطيبا عموميا في ميلانو بعد سنة 321م.
والملاحظ أن المدارس الرومانية لم تكن، سواء في برامجها أو طرق تعليمها، إلا تقليدا للمدارس الهلنستية، كما أن التأقلم مع الوسط اللغوي اللاتيني لم يؤد إلى تغييرات عميقة في مناهج التربية والبيداغوجيا. فالتعليم كان ينقسم إلى ثلاث مستويات أساسية تُطابقها ثلاثة أنواع من المدارس يُشرف عليها أساتذة متخصصون؛ فمنذ السنة السابعة يلج الطفل المدرسة الابتدائية، ليغادرها في السنة الحادية أو الثانية عشرة، قبل الانتقال لمدرسة النحو، ثم لمدرسة البلاغة فيما بعد. كما كان التركيز يتم على التعليم الابتدائي ببرنامج محدود الطموح؛ يمكن المتعلمين من أبجديات القراءة والكتابة والحساب… أما بالنسبة للتعليم الإعدادي، فلم يكن بإمكان كافة المتعلمين الطموح إليه ذلك ان المجتمع الروماني ظل مجتمعا أرستقراطيا بقيت الدراسات المعمقة فيه حكرا على النخبة، كما أن هذا النوع من التعليم كان أقل استثمارا من سابقه؛ مثله مثل مدارس النحو والبلاغة والأدبيات الكلاسيكية والتعليم العالي التي ارتبطت بتلقين فنون الخطابة الإغريقية وظلت مشتلا لأبناء النخبة من العقول النشيطة والثاقبة القادرة على تقديم موظفين كبار كالقضاة وأساتذة القانون والفلاسفة والمؤرخين…
2- التعليم في العصر الوسيط:
أما في العصر الوسيط، فبدخول الإسلام إلى شمال أفريقيا؛ كان لابد للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية بالمنطقة أن تتغير… وهكذا حلت تعاليم الإسلام محل التبشير بالمسيحية، وحلت “تاخوربيشت” محل “الدير”، وتحولت معظم الكنائس إلى مساجد وجامعات تقليدية ومدارس عتيقة… قبل أن تنشط حركة الزوايا، بضعف السلطة المركزية في أكثر من مناسبة، وتتكفل بنشر الدين الجديد وبتلقين روادها العلوم الشرعية من لغة وفقه وحديث وتفسير..
2-1- مدرسة “أبي الحسن الشاري”: أول مدرسة تعليمية بالمغرب والغرب الإسلامي
إذا اختلف جل المؤرخين حول تاريخ ظهور المدارس في تاريخ المغرب الوسيط، فإن المصادر المتاحة تؤكد على أن أول مدرسة بمفهومها الدقيق بالمغرب والغرب الإسلامي كانت على يد الخواص ولم تكن على يد المخزن، وهي مدرسة “أبي الحسن علي الغافقي الشاري” (توفي سنة 649هـ/1233م) التي أسسها بجوار “باب القصر” أحد أبواب مدينة “سبتة” سنة 635هـ/1219م، حيث وقفها على أحسن أملاكه، وحبس عليها خزانة من الكتب مشتملة على مصنفات في مختلف العلوم. وذلك بهدف إحياء العلم والسنة بهذه المدينة، بعد الإضرابات السياسية والضغوطات الاستعمارية المسيحية التي تعرضت لها لأزيد من ربع قرن من الزمن عقب ضعف الدولة الموحدية أنذاك (610-637هـ/1195-1221م). وحسب المصادر فهذه المدرسة كانت حديثية (تهتم بعلوم الحديث) انسجاما مع المذهب الموحدي-التومرتي؛ وخلافا للمدارس المرينية، التي ستأتي بعدها، والتي تهيمن عليها الدراسات الفقهية.. ذلك أن تكوين المؤسس يغلب عليه الحديث، حيث باشر التعليم فيها بنفسه منذ نشأتها… ليستمر التدريس بعده، على يد علماء آخرين، حتى القرن 8هـ/ 14م.
2-2- المدارس الموحدية:
بعد حوالي قرن من تأسيس مدرسة أبي الحسن الشاري بسبتة، أنشأ المخزن الموحدي مدارس أخرى لا يعلم عنها الباحثون الشيء الكثير؛ سوى ما عثر عليه الأستاذ “محمد المنوني” من وقفية كتابين حبسهما الخليفة “المرتضى” الموحدي (646-666هـ/1230-1249م)، أحدهما على مدرسة “القصبة” والثاني على مدرسة “جامع المرتضى”، وتاريخ تحبيسهما سنة 658هـ/1242م وهو تاريخ يتزامن مع تاريخ ظهور المدرسة الأولى بإفريقية على يد الحفصيين مما يفسر المنافسة التي كانت قائمة بين الدولتين، حسب الباحثين، في هذا المجال. ومهما كان حجم المدارس الموحدية ووضعيتها إبان تلك الفترة، فإن تأثيرها على الحياة التعليمية أنذاك كان جد محدود، لتزامنها مع الفترات الأخيرة من حكم هذه الدولة..مما جعل المبادرة الهامة لتشييد المدارس في تاريخ المغرب بيد المرينيين.
2-3- المدارس المرينية:
لقد جاءت مبادرة المخزن المريني بعد حوالي أربعين سنة من تأسيس مدرسة “سبتة” السالفة الذكر، وذلك حين أقدم “أبو يوسف يعقوب” المريني على تدشين مدرسة “الحلفاويين” قرب “رحبة البقر” إلى القبلة من “القرويين” سنة 675هـ/1258م. وهو الأمير الذي نُسب له بناء مدارس أخرى عديدة دون تحديد لعددها أو أماكن بنائها…ليتوقف المشروع المريني نصف قرن تقريبا، بعد أن واجه معارضة قوية من طرف فقهاء العاصمة “فاس” بسبب طرق تمويلها من الأموال المغصوبة، وبسبب الاضطرابات التي عرفتها الدولة المرينية والمتمثلة في الثورات المزمنة للأمراء حول الحكم، وفي الصراع المستمر مع الإمارات المجاورة كـ”بني عبد الواد” بتلمسان، “بني الأحمر” بغرناطة، و”المسيحيين” على الثغور الشمالية. وسيُستأنف بناء المدارس، من جديد، من سنة 721هــ/1303م إلى حدود 760هـ/1341م سنة وفاة “أبي عنان المريني”؛ حيث أُسست أزيد من 20 مدرسة، منها ثلاثة شيدها “أبو سعيد عثمان” (709-731هـ/1291-1312م) في دار الملك بـ”فاس”، واثنا عشرة أُخرى موزعة على أهم مدن المملكة بالمغرب الأقصى وحده… وهي مدارس كلها مُولت بأموال الأحباس نظرا لتوطد السلطة المرينية واستقرارها السياسي النسبي.
وإذا كانت مدارس هذه الفترة، كما تلح على ذلك النصوص التاريخية وبعض وقفيات التحبيس، قد ساهمت في إحياء العلم وتوفير الظروف المعيشية المواتية للطلاب والمتمدرسين كي يتفرغوا للعلم والتحصيل؛ وجعلت التعليم مجانيا يُمول بالأحباس سواء على مستوى توفير المقاعد الدراسية أو على مستوى الوسائل أو الأُجور… مما أدى إلى نشر التعليم ودمقرطته بين فئات واسعة حضرية وبدوية. فإن ذلك كانت له نتائج عكسية على مستوى بعيد؛ ذلك أن ظاهرة التحبيس وجهت التعليم حسب رغبات المحبسين وشروطهم..مما وجه المضمون نحو العلوم النقلية مقابل إقصاء العلوم العقلية كالفلسفة مثلا. وقد لاحظ “الحسن الوزان” هذا التهميش لدى السكان، إبان هذه الفترة، قائلا: “وكان من عاداتهم في القديم أن يدرُسوا الرياضيات والفلسفة وحتى علم الفلك؛ غير أنه منذ أربعمائة سنة خلت…منعهم فقهاؤهم وملوكهم من تعاطي معظم هذه العلوم. وذلك ما حدث للفلسفة والتوقيت الشرعي”. فكثرت المختصرات في التآليف أواخر العهد المريني، وأُلغيت الرحلات العلمية للقاء المشايخ تخفيفا للعلم وربحا للمال والوقت مما ساهم في انحطاط وتدني مستوى التعليم أواخر العصر الوسيط وبداية العصر الحديث على العموم.
3- التعليم في العصر الحديث:
لقد كان العصر المريني عصر تشييد المدارس بامتياز؛ حيث ازدهر التعليم ونُشر وجُعل مجانيا لأهل الحواضر والبوادي على السواء. لكن هذا الازدهار سرعان ما توقف مع استيلاء الوطاسيين على الحكم ودخول البلاد في فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية حيث انعدم الأمن والاستقرار، واستولى اليأس على القلوب ولم يعد هناك من يشجع العلم والعلماء… إذ سيُصبح التعليم مرتبطا أشد الارتباط بحركة الزوايا التي ستسترجع مكانتها بداية من القرن 9ه/15م وعلى امتداد الفترة الحديثة..والتي سيتعاظم دورها الحاسم في الدفاع عن البلاد بعدما ضعفت السلطة المركزية؛ كما ستتكفل بعملية التربية والتقريب بين العامة والعلماء بسعيها الدائم لتأمين السبل وحماية المظلومين وإيواء الفقراء.. فانتشرت بذلك المدارس العتيقة التابعة للزوايا على امتداد ربوع البلاد، حيث كان يتم التركيز على تعليم مبادئ القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن مع إتقان رسمه وتجويده في المراحل الأولى؛ قبل الانتقال مع الأذكياء والنبهاء من الطلبة إلى قراءة بعض المتون الفقهية واللغوية والنحوية المتداولة أنذاك كــ”ابن عاشر”، و”رسالة أبي زيد القيرواني” و”الأجرومية” و”ألفية ابن مالك” وغيرها لأجل تأهيلهم ليكونوا فقهاء في المستقبل. وكانت هذه المدارس تحت مراقبة الفقيه المؤسس للزاوية أو المسؤول عنها بنفسه، والذي كان دوره يقتصر في إلقاء دروس عليا في التفسير والحديث واللغة والنحو وغيرها من المواد المخصصة لكبار الطلبة. إذ كثيرا ما كان كبار العلماء يعهدون الى بعض كبار تلامذتهم بالتدريب على تدريس الطلبة المبتدئين تحت نظرهم. وتؤكد المصادر على أن بعض هذه المدارس كان لها دور أساسي في تخريج عدد من جهابذة المغرب خلال القرن 11هـ/17م، كما هو الحال بالنسبة لمدرسة زاوية “تامكروت” على عهد شيخها “محمد بن ناصر” الذي خرج علماء كبارا أمثال “أبي علي الحسن اليوسي” و”أبي سالم العياشي” و”محمد بن سعيد المرغيتي” وغيرهم.
وعلى العموم وكما هو ملاحظ اعلاه فلم يتصدر في المغرب، طيلة العصر الحديث حتى الحماية الفرنسية (1912م)، سوى هذا النوع من التعليم التقليدي القديم (الديني أساسا) الذي تكفلت به مدارس عتيقة كان خطابها التربوي موجها ومؤطرا بالتوجه المخزني الرسمي أو ما يدور في فلكه. وكان هذا التوجه مطبوعا بتصورات ماضوية تصل حد تجريم كل من أحال إلى أي إطار مرجعي ثقافي أو فكري محدث أو مخالف للتصور التراثي المهيمن، حتى ولو كان ضمن المرجعية الدينية ذاتها. ولعل أبرز تعبير على ذلك هو الظهير الذي أصدره السلطان العلوي “محمد بن عبد الله” (1757-1790م)، والذي يحدد فيه ما يجب تدريسه فيقول “ليعلم الواقف على هذه الفصول، أننا أمرنا باتباعها والاقتصار عليها، ولا يتعداها الى سواها(…) الفصل الثالث في المدرسين في مساجد فاس: فإنا نأمرهم ألا يُدرسوا إلا كتاب الله تعالى بتفسيره، وكتاب دلائل الخيرات في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتب الحديث المسانيد والكتب المستخرجة منها، والبخاري ومسلما من الكتب الصحاح، ومن الفقه المدونة والبيان والتحصيل(…). ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلسفة وكتب غلاة الصوفية، وكتب القصص، فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاط ما ذكرنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه”. فكما يتضح من هذا النموذج، فالتعليم إبانئذ كان يسعى إلى الحفاظ على نفس البنى الاجتماعية القائمة على التقليد بُغية إنتاج نفس الأفراد الخاضعين ومنعدمي الثقة مما يُسهل السيطرة عليهم وتوجيههم. اللهم بعض المحاولات الإصلاحية التي تعود الى مغرب القرن التاسع عشر (19) (عهد الحسن الأول)، حيث يُحسب للمخزن المغربي إرساله بعض البعثات الطلابية (طُلبة) من أجل التدريب، وتحصيل تعليم حديث في المدارس والمعاهد العسكرية الأجنبية على غرار التجارب اليابانية (عهد الميجي) والتركية والمصرية في أفق اكتساب خبرات متنوعة، وتزويد البلاد بأطر إدارية تقنية وعسكرية تستجيب لمتطلبات العصر. حيث تعددت وجهة هذه البعثات إلى كل من مصر وأوروبا (فرنسا، وانجلترا، وجبل طارق، وألمانيا، وإيطاليا)، وخاصة منها تلك التي أُرسلت إلى المدرسة العسكرية بـ”مونبوليي” (Montpellier) بفرنسا سنة 1885م. إلا أن حصيلة ومآل هذه البعثات معروف لدى الجميع. إذ سرعان ما أُقبر المتخرجون بعد عودتهم في مكاتب بعض الدواوين الوزارية بمهام لا علاقة لها مع طبيعة تكوينهم العلمي.
4- التعليم في القرن العشرين:
4-1- ملامح التعليم على عهد الحماية الفرنسية:
مع دخول المغرب تحت الحماية الفرنسية سنة 1912، ستتخذ مسيرة التعليم منحى متميزا؛ وذلك بعد أن حاول المستعمر إعادة هيكلة المجتمع المغربي، في كل بنياته الثقافية والتعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية… بما يتلاءم ومشروعه الاستعماري وأهدافه. وإذا كان يتضح للباحث في تاريخ المدرسة المغربية، منذ الوهلة الأولى، بأن هذه المرحلة كانت أساسية في تحديث العملية التربوية بالقطع مع الممارسات السابقة والدخول الى عالم العصرنة؛ فإنه سرعان ما سيكتشف بأن الحماية الفرنسية لم تكن تهدف إلى نشر التعليم لأهداف إنسانية وتحديثية كما كان الخطاب الاستعماري يروج آنذاك، وإنما كانت تريد أن تجعل من التعليم خادما لمصالحها الآنية والمستقبلية. حيث لجأ القيمون الاستعماريون على شؤون التعليم إلى إيجاد أنماط وأصناف مدرسية تقوم على عزل نُخبوي وعرقي وطبقي؛ إذ كان هناك تعليم أوربي، فرنسي بالأساس، وآخر يهودي، وثالث أهلي إسلامي (التعليم العمومي) ينقسم بدوره الى مدارس النخبة ومدارس الطبقات الشعبية والمدارس الفرنسية-البربرية المخصستاذ باحث صة لأبناء المناطق الأمازيغية بالأطلس خاصة، هذا إلى جانب الثانويات الإسلامية ومؤسسات التعليم التقليدي كمولاي يوسف بالرباط ومولاي إدريس بفاس، والتي بقيت امتدادا مُبسترا لنموذج التعليم التقليدي بالقرويين.
4-2- التعليم من الاستقلال إلى الفترة الحالية:
وبدخول مرحلة الاستقلال، بعد سنة 1956، بدأ التفكير في بلورة سياسة تربوية وطنية تهدف إلى رصد ورسم المعالم والمبادئ الرئيسية للنظام التربوي بالمغرب المستقل. وفي هذا الإطار تم تأسيس “اللجنة الملكية لإصلاح التعليم” سنة 1957، التي أقرت مبادئ “المذهب التعليمي الجديد”: “التعميم- التوحيد -التعريب – والمغربة”. وهي نفسها المبادئ التي أكدها الحسن الثاني، فيما بعد، في ندوة إفران بتاريخ 11 مارس 1970: ”المغربة أولا ثم التعريب، إذ لا يمكن تحقيق هذا الأخير دون سابقه، ثم التعميم في مرحلة ثالثة وأخيرا التوحيد..”، والتي لم يقع عليها في الواقع سوى إجماع نسبي بسبب اختلاف المرجعيات الفكرية والعقائدية والسياسية للنخب الاجتماعية والسياسية السائدة. ولعل ذلك ما جعلها تعرف، في مراحل لاحقة، عدة ترددات وصيغ مختلفة من التأويلات…، فكانت النتيجة بعد نصف قرن من تبنيها أن الدولة الوطنية لم تتمكن من التحقيق التام لأي واحد منها… اللهم المبدأ الكمي المتعلق بمغربة الأطر.
وربما هذا هو ما انعكس سلبا على مجال التعليم ونوعيته فيما بعد؛ فرغم النمو الملحوظ الذي صاحب الصحوة، التي عرفها النظام التعليمي، على مستوى معدلات التمدرس، وحجم الإنشاءات التربوية، ومعدلات الأمية وغيرها..فإن هذا النمو لم يبرح الطابع الكمي في مجمل مظاهره ومناحيه. وهو الوضع الذي ما فتئ الخطاب الرسمي المعلن يبرره بشروط وخصوصية الظرفية التاريخية الحرجة التي كانت تمر منها البلاد، والتي تقتضي الاهتمام بالكم كمقدمة أساسية للانتقال إلى الكيف…وهي وعود متكررة لم يتحقق منها شيء إلى حدود الفترة الراهنة.
إن هذه الأحداث التاريخية مجتمعة هي التي أثرت على مسار المسألة التربوية بالمغرب الراهن، ولاسيما منذ مستهل الثمانينات من القرن الماضي. ذلك أن الخطاب التربوي أصبح يتمحور حول إشكاليتين مركزيتين أساسيتين هما: إشكالية التراث وما يرتبط بها من مفاهيم مثل الأصالة والهوية والذاتية الوطنية والقومية وغيرها، مقابل إشكالية التنمية وما يتعلق بها من مفاهيم كالتحديث والدمقرطة والعقلنة والتقدم والتجديد..؛ مع ما رافق هاتين الإشكاليتين من صراع جدلي للترجيح بين موقفين متعارضين: ترجيح المد التراثي عند السلفية التقليدية الوطنية، أو ترجيح المد التحديثي عند النخب التقدمية المعاصرة السائدة..هذا الترجيح الذي لم يكن قط نهائيا أو حاسما، بل بقي موفقا بين طرفي المعادلة: “قديم أصيل/حديث معاصر”. ومن ناحية أخرى، كان عدم الاستقرار من خصائص الوزارة الوصية على القطاع ومن تعاقب عليها من مسؤولين، بشكل مثير، فمنذ الاستقلال إلى حدود مطلع الألفية الثالثة (وظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين) عرف هذا القطاع تعاقب أزيد من 38 وزيرا، وكاتب دولة أو نائب كاتب دولة. أما مقاربة هؤلاء لقضايا التربية فإنها لم تكن دائما متجانسة، كما أن سياستهم ظلت تفتقر إلى القدرة الكافية على الاستمرار. ولقد أسهم هذا الوضع في عدم استقرار الإصلاحات المعتمدة، وكذا في هشاشتها وضعف تجذرها في ميدان يكون فيه من الضروري أن تتخذ الأفعال والإنجازات صفة الاستدامة.
* أستاذ وطالب باحث في التاريخ
مراجع:
– الحسناوي عبد الرحيم، النص التاريخي : مقاربة إبستيمولوجية وديداكتيكية، دار أفريقيا الشرق، الدرالبيضاء، 2011.
– حلس داوود درويش، “معايير جودة الكتاب المدرسي ومواصفاته لتلاميذ المرحلة الأساسية الدنيا”، بحث مقدم لمؤتمر جودة التعليم العام، الجامعة الإسلامية، كلية التربية، غزة المحتلة، 30-31 أكتوبر 2007.
– العروي عبد الله، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب،ج 1، ط 3، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، 1997.
– كنون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب المغربي، ج1، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1961.
– مجموعة من الباحثين، المغرب الممكن: إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك (تقريرالخمسينية)، مطبعة دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، 2006.
– معينينو عز الدين، السياسة التعليمية والتربوية بالمغرب من بداية الاستقلال إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين بحث لنيل دبلوم المدرسة العليا للأساتذة، شعبة التاريخ والجغرافيا، المدرسة العليا للأساتذة التقدم، الرباط، الموسم الدراسي 2004/2003.
مقالات ومنشورات:
– نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
– أسكان الحسين، الدور التاريخي للمدرسة في التعليم بالمغرب الوسيط، مجلة أمل، عدد مزدوج 28-29، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2003.
– أُعشي مصطفى، ملاحظات حول الدروس الخاصة بما قبل التاريخ والتاريخ القديم المنشور في كتاب التاريخ للسنة الأولى ثانوي، سلسلة الندوات العلمية حول موضوع تدريس تاريخ المغرب وحضارته: حصيلة وأفاق، تنسيق ذ. محمد حمام، الرباط، 2009.
– البكراوي محمد، الطلبة المغاربة بالجامعة الفرنسية خلال فترة ما بين الحربين: 1927-1939، مجلة أمل، عدد مزدوج 28-29، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2003.
– البوزيدي أحمد، الدراسة والتدريس بمدرسة تامكروت على عهد الشيخ محمد بن ناصر، مجلة أمل، عدد مزدوج 28-29، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2003.
– الجابري محمد عابد، التعليم والتحديات الراهنة والمقبلة، سلسلة مواقف، العدد 14، الطبعة 1،الدارالبيضاء، أبريل 2003.
– حبيدة محمد، تــاريخ جديــد أم كتابة جديدة مجلة رباط الكتب، مجلة إلكترونية، العدد الخامس شتنبر 2008 (نسخة رقمية)
– ريفي دانيال، من الصعب مقاربة المغرب وهذا رأيي في العهد الجديد، جريدة المساء، العدد 1902 بتاريخ 06/11/2012.
– علوي علي، قراءة في كتاب “نحو سوسيولوجيا نقدية لخطاب التحديث التربوي بالمغرب” للأستاذ مصطفى محسن”، مجلة أمل، عدد مزدوج 28-29، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2003.
– قاسم عبده قاسم، تطور مناهج البحث في الدراسات التاريخية، مجلة عالم الفكر، المجلد 20، العدد1، ابريل مايو – يونيو 1986
– مؤنس إبراهيم، بروديل والتاريخ الجديد، مجلة آفاق تربوية، العدد 10/1995، إصدار نيابة وزارة التربية الوطنية ابن مسيك سيدي عثمان، الدارالبيضاء، 1995.
– هنري إرني مارو (Henri Irenée Marrou) الإبداع الروماني في مجال التربية، ترجمة ذ. عبد العزيز بل الفايدة، مجلة أمل، عدد مزدوج 28-29، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2003.
– L’histoire du Maroc, Zamane, Les 25 enigmes de l’histoir du Maroc, Brahim Roudani Le résistant oublié, Edition two Medias Maroc, Casablanca,2013, pp :80-87.
أترك ردا أو تعليقا مساهمة منك في إثراء النقاش